هذه الأرض التي مشيت عليها مُسبقاً أعود لها اليوم .. أجلس تحت سقيفة من سعائف النخل بعد استحمام أنزل عني هُموم رحلتي قبل أن يمسح عني عرقها وتُرابها .. أستنشق الهواء العليل .. لا أبراج تفصلني عن منظر السماء .. ولا عُمران لغطي يقضي على الطبيعة .. يُقرؤني السلام .. وأجيب بأتمه .. هذا لأن الارض التي أتيت منها لا يعرفون من السلام إلا حُروف مُجزأه .. تدعو عليك بالموت عندما يُلقي عليك المار فيقول : السام عليكم ! فلا أجد نفسي إلا أن أستنطق لساني بِحُسن الظن وأقول : وعليكم مِثل ما قُلتم .. وأكثر !
نفس مُرتاحة وراضية .. وعمل يُجهدك على أن تجتهد في الصبر على سماع الشكاوى .. وإني أستمع بإنصات وسرور .. تستميل الأيام ميلة واحدة وتضرب السماء أجسام طائرة تُلقي بالموت والدمار .. يتبدل الحال وتتغير الأجواء .. الظلام في الليل وكأنه أنثى استوطنت عباءتها حتى نامت بها .. يتوهج باحمرار كُلما زفرت تلك الأجسام وأكالت الموت بمكيالين ..
ولا عطاء لمن لا يُعطي .. وهكذا أجد نفسي أحمل الحقيبة على كتفي مُزودة بِكل ما يُساعد .. مشاهد كثيرة وقِصص هي الأعجب إذا ذُكرت .. يومها كُنت أستريح من عناء يومين كاملين حتى باغتني خبر مفاده أن شارع قريبتي أصابه وابل من القذائف .. وقد اخترقت احداها مُقدمة المنزل .. علمت أنها نُقلت هي وعائلتها إلى المُستشفى .. ارتديت ملابسي سريعا وهرعت راكضا .. وصلت هُناك واطمئننت عليها وعلى باقي أفراد عائلتها .. حماية الله ردت الانفجار سُوى شظايا صغيرة اخترقت الجلد .. أزيلت الشظايا وضُمدت الجراح .. جُرح يلتئم ولا تنسه الذاكرة .. إنه كـ من يُبعث من الموت ..
عادت الاجراءات الرُوتينية مرة أخرى لتُؤرق تفكيري .. اجراء التجديد والتمديد .. فلا هَوية لـمن لا جواز له .. ونفي في دَولة الغُرباء لمن لا اقامة له فيها .. كُلها أحبار على ورقة استهلكت من جسدي وتفكيري كُل ما استهلكت .. انتقلت أرض المعركة إلى البوابة التي تُخرجك من الموت .. كُنت أظن أنّ ما وراء هذا القحط المُميت خَضَار من الحياة .. وانما وجدت التنكيل والتعذيب يزداد ويزداد .. حتى ظننت أن الموت أرحم !
انتهت الاجراءات .. ويا ليت الألم كان محض كلمتين لا تتجاوز الثواني التي عبرت عنها بانتهاء هذه السخافات .. عُدت لأتمم ما بدأت .. حتى أعلنت الحرب انتهائها .. وأصبح البُرج المقسوم واقفا وشاهدا على العُدوان ..
ما أن انقشع الغُبار الذي خلفته هذه الحرب .. وأصبح الناس يُبصرون ولو قليلا بعد انجلاء ضبابها شيئاً فشيئا .. توجهت إلى البحر .. حيث تموت الهُموم هُناك .. يغسلك كما يغسل نفسه .. وقتها كان الشتاء ينقث لسعاته الباردة .. لكني ارتميت بكُل ثقلي على الماء .. وازويت تحت سطحه لِ بُرهة .. أحاول أن أُفرغ كُل الماّسي التي رأيتها .. وأرتد بجسدي مُخرجا اياه .. كأني أرى الهُموم تبتعد من حولي ..
لم تكن الحكايا التي خلفتها تلك الحرب قد خُطت على الألسنة .. وعاش الناس في صمت ينظرون إلى أنفسهم فقط كيف خرجوا من هذا الهلاك المُبين .. عادت الحياة تدريجياً وببطء شديد .. كثيرة هي الأماكن الفارغة التي تركها من استعجلوا الرحيل .. ما عُدت أطيق السُؤال عن غائب خشية أن أُفجع بخبر رحيله .. كُنت أترك الفُرصة للأيام أن تُلقيني إلى لِقاءه بالصُدفة .. وكُلما مررت على المقابر وقفت أنظر إليها .. لم تكن بهذا الاتساع قُبيل الحرب .. وما زال التُراب رطبا .. والشاهد يتمايل .. والزرع أخضر من الماء الذي رُش بِعناية .. صمت لا يُحرك إلا خوفا من سُؤال باغتني .. أين أنت يا من أبحث عنه .. هل أنت حقا هُنا ..
أنظر إلى ساعتي فأرى الوقت قد سبقني وأنا لم أشعر به .. أقرأ : السلام عليك وعلى من حولك .. أنتم السابقون وإنا إن شاء الله بكم للاحقون .. وأمضي في طريقي ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق