الثلاثاء، 20 ديسمبر 2016

على ناصية الحي



عندما تُحلق الطائرات على مسافة تخترق بها أجواء المكان تدريجيا .. وتسمع صوت مُحركاتها تُزمجر .. حِينها تتيقن أن هلاكاً سينزل على أرواح أو مساحة ما .. فـ تتجه الانظار إليها وكأنها ثابتة في مكانها تنتقي وتختار أين ستُنزل حُمولتها .. وفي فُجاءة .. يلمع من أسفلها ضوء يعقبه صوت يثقب الاّذان قبل أن يثقب الهواء .. يمتزج صوته مع صرخات المُشاهدين .. وكأن المشهد لُعبة كُرة قدم .. كُلما ركل المُهاجم الكُرة باتجاه مرمى الخصم يتبلد الجُمهور في صمت يترقب مصيرها ..
في لُعبة كُرة القدم .. لا تنكسر إلا النفوس .. ولا تبتهج إلا النفوس أيضا .. بِخلاف ملعب الحُروب والنزاعات فـ للأجساد نصيب وللأرواح أيضا .. سيهبط الصاروخ في بُقعة ما .. ويُخلف وراءه جبلا من الأتربة والغُبار وتناثر الحُطام هُنا وهُناك .. تتطاير الشظايا وتختفي الرُؤيا كُليا ..
يهرع الناس إلى المكان .. تبدأ الصُورة بالظهور تدريجيا فيكون الغبار والتراب قد طلى الأجساد وأصبح الجميع بلون واحد .. الرمادي !

في مشهد لا تحكمه العقلانية .. الاندفاع دُون ادراك .. بعضهم للانقاذ والبعض للتهليل والبعض الاّخر يقف على ناصية في ذُهول يجتاحه .. كيف لـ كُتلة حديدية لا تتجاوز الخمسة أمتار أن تجعل الأرض تنبض بما فيها وتنفض من عليها .. وكأن المكان قد تعرض لـ صدمة كهربائية كالذي يفعله جهاز الصدمات الكهربائية بصدر توقف قلبه عن العمل .. لكن باختلاف النتيجة !

ينتهي المشهد .. ولا تقف الأيام ولا العقارب ولا الثوان .. أنتهز ساعة من يومي لأسير على قدمي إلى ذلك المكان .. وعلى ناصية أقف وأحدق في الأرجاء .. كُنا ذات مساء نلعب الكُرة هُنا ونهرب من ذاك الشارع ذات مطر .. كانت تلك الشُرفة تجمعنا .. كان صديقي يقف على زاوية سطح منزله صامتا .. أنظر إليه وكأنه يُودع المكان لارتحال بلا عودة ..

أقف في صمت .. ثُم تأخذي قدمي إلى المكان الذي يحتويه .. أُسلم عليه وأهديه وردة من شجر الصبار .. وأسقيه ماء عذبا ثُم أرشه بماء البحر كي تبقى الذكرى حيه .. أودعه في داخلي قائلا : 


سلام عليك .. طِبت وطاب مُقامك ..

الأربعاء، 14 ديسمبر 2016

بصيرة عمياء وجاسوس صامت


لم تكن الابادة للانسانية محط أنظار الانسان الواحد إلا عندما تهالكت أمم كُبرى تدريجيا في حُروب مُتفرقة على مُختلف الأزمان .. لم يُسجل التاريخ ابادات جماعية إلا عندما تمرد الانسان على ذاته وأصبح يرى نفسه فوق الجميع ..
الحُروب العالمية التي انتهكت من البشرية كُل عِرض ورُوح وجسد .. تأتي الاّن على هيئة ( جماد ) يبث سُما زُعافا في أدمغة كُل مُتابع لكل مُستجد !

فـ في حِين كانت الدُول الكُبرى التي صنعت هذا ال ( جماد ) وما زالت تُهيكل وتُشكل كُل جديد من السلاح والعتاد مهما اختلف حجمه وشكله .. استطاعت أن تصل بيت كُل هدف لها دُون أدنى خسارة للأموال أو الأرواح .. ( الشبكة العنكبوتية ) المُتمثلة بِكل برامجها واستحداثتها والتي استعبدت كل الأدمغة وانتهكت كُل خُصوصية وأتلفت كُل الأفكار والاطروحات ..

لم تكن التكنولوجيا عيبا أبدا .. ولست بالساذج الذي يرمي كُل المصائب الواقعة على جماد .. إنما السُلوك الذي ينتهجه الكثير من الناس في تفسير كُل واقعة تُبث على هذه التكنولوجيا والكذب معها ألف كِذبة يجعلك تقف موقف الحذر من كُل ما يُقال !

العالم الافتراضي الذي أدخل نفسه عُنوة داخل كُل بيت قد تحكم تقريبا في كُل ما نفعله أو نُردده .. إنك عندما تحضر جلسة وتجلس مُنصتا فإنك ستجد أن أغلب الكلام مُنبثق من مواقع عِدة وفضائيات مُختلفة .. حتى التحليل الذي كان أجدادنا يروه لنا بِدون تكلف قد أصبح على لِسان الكثير مُصطنعا مكذوبا مليئا بالشوائب ..
وتجد في الحوار أن الفِطرة لا تُكال بمكيال الانسانية وإنما بالانتماء الذي أعمى كُل بصيرة وعقل ..

وعِندما تُوضع في خِضم الأحداث وتعيشها رُوحا وجسدا .. ثُم تنظر بعد انجلاء الغُمة إلى التعليقات والتحليلات التي تتحدث عنك في الوقت الذي كُنت تُكافح كِفاح الهارب من أنياب الأسد وأسنان الضِباع .. تتجلى لك البلية التي تهوي بك إلى ضحك هستيري يعقبه صمت مُحير يأخذك إلى تساؤل : من أين يستمد هؤلاء أفكارهم ؟!
ثُم يغلبك الملل .. فـ تتجه إلى الشاشات حيث المُحللين والمُفسرين وأصحاب الرأي .. وكُل يدلو بدلوه على خلفية انتمائية مُنبثقة من تعصب وعُنصرية حتى إذا ما احتدم النقاش بان صِدقهم في غضبهم .. فالغضب يُخرج كُل شيء .. الصدق والكذب ..
إن التكنولوجيا كـ مرض الايدز .. تبدأ بعلاقة تربطك بك فترتبط بك .. ولا تأثير ولا سُلطة لها عليك ما لم تفقد توازنك الفكري والانساني .. فإذا حصل .. فإنها ستستفحل وتنتشر وتأكلك ببطء حتى تُهلكك وتُهلك من معك ومن حولك !


الثلاثاء، 13 ديسمبر 2016

الشعوب والدجاج



كـ قِصة رواها لي أحدهم ذات مساء :
قدم ابني الحاكم إلى أبيهما في حيرة وعلامات الاستفهام تتطاير حولهما .. وطرحا السُؤال على الحاكم دُون أية مُقدمات ..
كيف حكمت الشعب طوال ثلاثون عاما دُون أدنى مُقاومة ؟!
فأجاب : سأقطع لكما الحِيرة بمشهد تمثيلي .. ستكونون أنتم أبطاله .. وطلب منهما احضار قفص يحوي عشرون دجاجة واخراج الدجاج من القفص .. ثم اعادة امساكه ووضعه في القفص مرة أخرى ..
كان يعلم أن من طبيعة الدجاج الركض هُنا وهُناك .. ولأن الطبيعة تغلب فقد أُنهك الاثنان في الامساك والتعبئة حتى هلك النفس .. فسألهما الحاكم : كيف وجدتم ما فعلتم ؟ قالوا : مُنهك حد التعب ..

ثُم قال : فليمسك كُل واحد منكما طرف القفص ولـ يرجه رجا حتى يبلغ الدجاج مُنتهاه .. ثم أخرجوه خارج القفص وأعيدوا تجميعه .. ففعلوا !
وجدوا أنّ الامر كان بسيطا مُيسرا ..
فقال الحاكم : إن العِبرة من التجربة أنكم إذا ما تركتم الشُعوب دُون متاهات وعثرات فإنهم سيتفرغوا إلى الحاكم .. ولكن أغرقوهم في بحر الأزمات .. تتلاطمهم أمواج الانتكاسات .. ولا تتركوا لهم سبيلاً إلى شاطىء الهُدوء والطمأنينة ..

وما إن انتهى من رِواية القصة حتى باغتنا خبر عاجل على شاشة التلفاز مفاده أنّ الحُكومة سترفع الدعم عن الدواء في تاريخ يبدأ بعد شهر من وقت جُلوسنا ..
نهض سريعا مُستنفرا .. سألته إلى أين ؟!
قال سأذهب لأنام لكي أستيقظ باكرا قبل الزحمة التي ستعم المراكز الصحية .. هذا لأن نِصف الشعب يُعالج من أمراض مُزمنة والنصف الاخر لا يجد الدواء !

الثلاثاء، 8 نوفمبر 2016

المغترب في وطنه




أخذ على عاتقه أن يُبدل حَال ما أُحيل إليه - رُغماً عنه - .. على الرُغم أنه الذي أنصت للاّذان بصمت تام وقت ولادته .. وكبر على مسامع اذاعية تبث أغانٍ وطنية .. وكان يصرخ في مجالس الكِبار - بلا وعي - إذا ما اشتدت حِدة الجِدال وهو لم يتجاوز السادسة من العُمر ..
العُمر الذي لا يقيس من الحياة إلا سعادتها قد انطوى بـ طّي الأيام والسنين .. وحلبة الدُنيا لا تعصم أحداً .. تُدخله عُنوة داخل الحلبة .. وتضربه إلى أن يسقط أو يُبدل مع اّخر ينتظر دوره دُون عِلم أواستعداد لما سيُصيبه .. يبدأ الشقاء بمجرد المُبادلة .. ولا سعادة سوى في الجُلوس والتقاط الانفاس للاستعداد لـ جولة أخرى ..

أخذ على عاتقه أن يُبدل حال ما اُحيل إليه - رُغما عنه - .. على الرُغم أنه أنصت بعناية لـ وطنه الذي تشبع بكل أنواع النفاق والأكاذيب .. يستمع إلى هذا وذاك .. يُحاول أن يُصدق ذلك الكائن الذي يظهر عليهم كُل اّن .. يبث كلمات تشجيعيه .. ظاهرها قُوة ورحمة .. وباطنها من قِبلها عذاب اّت .. ذلك الكائن الذي ينتصر له مُرتزقة .. يُلقبون كائنهم بـ الطبيب الذي سـ يُداوي المرض الذي أكبّ بالوطن .. 


كان يعلم أن الطبيب ساقط برُتبة فاشل .. مُتلعثم في وصف الداء .. ويُبدل ألف وصفة لـ يجد الدواء .. في كُل واحدة يُمزقها ويرميها يتلقفها المُرتزقة رُغم قناعتهم بضرره .. يصفونها للعامة على أنها منارة النجاة .. حتى إذا ما تبين فشلها انهارت المنارة على السفينة .. وأصبح المُنقذ الذي كان بالأمس هو المُدمر اليوم !

أخذ على عاتقه أن يُبدل حال ما أُحيل إليه - رُغما عنه - .. يستيقظ من فراش طاله الأرق .. يرتدي ملابسه التي اتسخت بالأمس وامتلئت بالعرق .. يمتلك بذلتين .. واحدة جديدة تنتظر الكهرباء مُنذ ثلاثة أيام لتتطهر من رِجس أصابها عندما هجم عليه كلب يقطن أمام مدخل منزله .. لم يعلم وقتها سبب غضب ذلك الكلب رُغم أنه ترعرع في تلك الحارة مًنذ أن كان جروا .. أما البذلة الأخرى فكانت قديمة .. لا يظهر عليها الوسخ من كثرة ارتدائها حتى صقلتها الأيام .. وأصبحت مَعلَم من معالم البُيوت المُهترئة ..

يخرج من البيت على نفس الروتين والوتيرة .. يُردد كلمات الروائي باولو كويلي ( الرغبة ليست ما تراه .. بل ما تتخيله ) .. يُبدل الألوان كيفما يشاء ويتخيل عواميد الانارة الخشبية بأنها أشجار .. ومخلفات القمامة العالقة على أسلاك الكهرباء من رمي السُكان على أنها عصافير وطيور .. وكُل حُفرة يتعثر بها وكأنه يتجهز للألمبيات .. يقف في طابور لـ يشتري تذكرة مترو .. يبتسم وخيال يُصور له أنها تذكرة تحقيق حلمه لحضور أوبرا عالمية .. يصعد المترو .. نوتات هادئة يعزفها بعناية .. يجتذبها من كُل ذلك  الصُياح والصُراخ والجدال على المقاعد ومن له الأحقية في الجلوس .. وتلكم النساء اللاتي يُزاحمن الرجال .. وذلك الرجل الذي يُسب ويُشتم في مقطورة النساء ..

قطع العزف عندما التقط كلمة ( كلب ) من لسان راكب أجهز على البلاد والعباد بالسب والشتائم .. فـ هو لم يُحرك ساكنا لكل ما دار .. لكن عقله الباطن أعاده للواقع عندما خُيل له أنا كلباً سيُهاجمه كما هاجمه بالأمس .. فهو الذي يخشى على بذلته أكثر من خشيته على نفسه لأنه كان يعلم أن الجلد المجروح يُعالج نفسه ويُغطى بقماش يحجبه .. أما البذلة فـ تحتاج لخياطة وغسيل .. بالاضافة ألا أنها تَسترْ ولا تسترُ نفسها !

أخذ على عاتقه أن يُبدل حال ما أُحيل إليه - رُغما عنه - .. الشهادة الجامعية عِنوان بداية .. ولا بديل عن العِلم الذي تقوم به الأمم .. كانت حِكمته في كُل إذاعة مدرسية صباحية حتى أصبح معروفاً فيها .. يُردد : العلم نور والجهل ظلام .. هُو من استيقظ وارتدى زيه المدرسي .. ووضع رُبع الرغيف في حقيبته وقَبّل يد والدته .. يقفز مُبتعدا عن الطين الذي خلفته المجاري .. يقف على الرصيف ويقرأ الفاتحة على والده الذي خرج صباح للعمل ولم يعد عندما باغته القطار بسبب عُطل مُتكرر في المزلقان .. يجتاز حاجز الموت الذي لم يتغير منذ الحادثة - ولا قبلها - .. من المواصلات إلى المشي إلى المدرسة .. في نهاية الدوام .. يأخذ نفس الطريق بـ حواجز جديدة وكثيرة .. يصل إلى البيت بعد جُهد يُقاس بـ حصان يركض حول ملعب كُرة قدم خمسون مرة .. يأكل لُقيمات وينزوي بكتابه ودفاتره .. يُرتب جدوله ويُحيل رأسه لوسادته ليستيقظ على ذات الماّل والمنوال ..

حال المدرسة كـ حال الجامعة .. هي نفس المقادير .. لكن الشهادة الجامعية ذات مذاق اّخر .. أمسكها بيديه الاثنتين .. يقرأ كُل حرف منها ومع كُل حرف يمسح مُعاناة تلك الساعات والأيام .. امتلك الدُنيا بين يديه .. ( إن الجنة تقبع هُنا ) .. دُموع وأحضان .. وأُم تذرف الدموع .. هكذا هُن الأمهات .. وما أجملهن ..

أخذ على عاتقه أن يُبدل حال ما أُحيل إليه - رُغما عنه - .. إن الجنة تقبع هُنا .. لكن الجحيم هُنا أيضا .. البذلة القديمة كانت وقتها ناظرة .. ارتدى وخرج حاملا في يمينه حياة كاملة وعُمر أفناه في هذه الورقة .. يدخل من باب مُبتسما .. ويخرج من ذات الباب والعجب والشك يتحرى سبيلا إلى عقله .. كُلما قدم لـ مقابلة لم يجد مكانا .. وإن وجد .. أبدلوه مكان غير مكانه وعملا لا علاقة له بـ علمه !
طوال الصباح وهو من مكتب لاّخر .. اليوم الأول والثاني والثالث ثُم الاسبوع الاول والثاني والرابع والسادس حتى طالته الأشهر .. وما إن قارب السنة حتى استنفذت الساعات كُل صبره وتحمله كما استنفذت كل قُوت يومه ..
أيقن أن الشهادة ليست إلا بئراً جافا .. طوال تلك السنوات وهو يحفر أرضا صلبة .. يضرب الصخرة ضربة تلو الضربة فـ ترتد المطرقة على وجهه .. تتورم أصابعه وتدمي قدمية من كثرة ما حملت من جسده وما يحمله جسده ..

ولا طائل من الجُلوس .. رضي بأي عمل يُخفف عن بطنه ذلك الأنين الذي لازمه .. تجده تارة في مقهى شوارعي يحمل الشاي إلى الزبائن .. وتارة يعمل كـ محاسب في مركز كبير لبيع المواد الغذائية .. وأخرى تجده يفترش بسطة من الخُضار ويُنادي لبيعها .. ومرة تجده عامل فِعالة .. يحمل الاسمنت والرمل على ظهره .. في إحدى المرات .. استوقفه عقله عندما كان يبني جدارا ويُشيد بُنيان مرصوص .. تمّعن مُتسائلا : أين هُو الجُزء الذي استوقف جدار حياتي .. ولماذا لم أستطع اكمال بنائه ؟!
لكن صوتا قطع تسائله عندما سمع عاملا يحكي عن بِئر ماء انهارت بعد بِنائها .. وعندما بحثوا عن السبب وجدوا أنّ الأساس هو المشكلة .. لم يكن مدعوما بما فيه الكفاية لـ تحمل ضغط الماء .. هذا لأن مُقاولا كان لِصا سارقا .. يمتهن الأكاذيب في دفاتر الفواتير .. يزيد المبلغ ويقل المُستورد من الاسمنت المطلوب !

أخذ على عاتقه أن يُبدل حال ما أُحيل إليه - رُغما عنه - .. هو المُثقف الجامعي الذي شغل كُل المناصب إلا منصبه .. مناصب لا يرضى العمل بها إلا من قهرته الصِعاب والذُل والظُلم .. إنها مِهن شريفة لكن المُقام لم يكن مقامه .. فلا عيش لـ جمل في القُطب الجنوبي .. ولا حياة لـ دُب قُطبي في الصحراء .. الرجل الذي حاول أن يجتاز كُل الحواجز ويقهر الصعاب توقف عن العقل .. وأصبح الجسد مناط عيش ..
الأيام تمضي .. صوت الموت الذي يعلو في البِقاع البعيدة يقترب شيئا فـ شيئا .. الأخبار المُعلنة واحدة وكأنّ المُذيعة تنقل الجُثث بين أدراج المشرحة .. كانت فلسطين عنوان كُل رأس ساعة .. والقُدس عاصمة النشرات الاخبارية .. عندما تدق الساعة ناقوس الخبر يصمت الجمع وتسترق الاّذان همسات ما يُعلن .. ناهيك عن الشريط الأحمر الذي يبرق على الشاشة يبث الخبر العاجل .. كانت فلسطين فاتحة كُل صباح .. يستيقظ على أصبحنا وأصبح المُلك لله .. واللهم انصر فلسطين .. ثُم يقوم للوضوء ويُصلي الفجر في جماعة وهو يتحين السُجود ليُهلل بالدعاء .. يُطيل السُجود أحيانا جرّاء غرقه في بحرٍ خيالي إيماني .. يتصور الأقصى أمامه فينتهز الفُرصة .. فصلاة واحدة بـ خمسة ألاف صلاة .. لا يرميه إلى الشاطىء إلا تسليم الامام .. يستعجل التشهد ويُسلم ..

لقد ( كانت ) .. و( كانت ) هي فعل ماض مبني على التخاذل والنسيان في قواعد العرب .. حتى قدمت ( صارت ) .. فلم تعتق أرضاً من نكباتها .. التهب عقل البوعزيزي قبل أن يُحرق جسده .. صفعة ( امرأة ) كانت الطلقة التي اخترقت الجسد العربي .. أحرق عالما بأكمله قبل أن يُحرق نفسه .. إنه الرجل الذي لم تهن عليه بستطه .. قلب كُل موازين الكِيمياء وانزوى العُلماء في حِيرة .. كيف لـ نار أن تُطفىء الغضب والكبرياء .. لكنها أطفئته حقا !


يُــتبع ..

المُغترب في وطنه



ملاحظة .. اقرأ الجُزء الأول 
........................................................................................................
أخذ على عاتقه أن يُبدل حال ما أُحيل إليه - رُغما عنه - .. الحُلم .. رغبة مشوشة وطريق ضبابي .. كان سيوران يقول : ( ذلك الذي يخشى أن يكون مُتشرداً هو أكثر تعاسة من المُتشرد نفسه .. هذا إن افترضنا أن المُتشرد تعيس ) ..
الرجل الذي لا يتحرى خبراً من التُكنولوجيا والشبكات العنكبوتية .. يعلم أن كُل ما يُبث هو حِياكة مُصطنعة وبالية .. سُرعان ما تهترىء بعد أول ظُهور وإعلان .. لكنّ وقعها جلل وكبير بين أوساط العامة .. يسترق الاعلام خبرا ليس واضح المعالم .. ويُكذَبُ من قِبل فُساقه ألف كذبة وكذبة .. فيتوه الجُمهور بُرهة .. يُمرر الساسة كُل ما يريدون في تِلك اللحظة .. فالعيون انحرفت ولم تعد تُبصر الحقيقة ..

قرأ يوما منشورا لـ رجل عُرف عنه العِلم .. وله من الكُتب والاطلاعات والنظريات والبرامج الهادفة التي يُحاول بها استنهاض الفِكر ( أو كما يُريد ) .. كان المنشور عبارة عن استطلاع رأي مفاده : هل تُفضل الأمن مع الذُل أم الحُرية مع الثورة ؟!
أحاله السُؤال بعيدا عن ما أجبرته الحياة إلى ما أُحيل إليه من ظروف .. ما هي الثورة .. وهل نحن حقا في ذُل .. وهل هُناك في هذا العالم أمن مع حرية .. وكيف تكون الحُرية .. 

إن الصمت العاقل لا يعقبه إلا لسان حاضر ومُوجز .. ما كان عليه إلا أن يُحدث نفسه بعد كُل هذه التساؤلات .. النفس التي إذا ما استطابت .. استطاب العيش من بعدها .. إن الجميع يحملون في ذوات أنفسهم جرائم وفساد وسُجون .. كما يحملون العفو والاصلاح والحُرية .. لكنّ الفرق هو لمن ستُطلق العنان .. المُثقف هو من يستطيع مُراقبة نفسه ..

الإيقاع الذي أجبره على العيش بهذا الدوام الذي قارب أن يكون دائما بالنسبة إليه .. إن الوشم الذي وُسم على جبين حياته بـ مسامير مُعوجه طّرزت جسده وحاكت جِلده .. كما شوه الرسام مارسيل دُوشان لوحة العبقري دافنشي .. حوّل ( الموناليزا) إلى ( الملعونة ) .. فـ هكذا ينمو المُتسلقون على أجساد العُظام الذي قهروا الصِعاب وخالفوا قانون الحياة المُستبد ..

حال كُل من لا يُتابع أحوال ما يجري حوله كـ من يُتابع .. ولا فرق إن كُنت ناظر أو مُستمع .. فأن تُسلم رأسك لـ حلاق ليقص شعرك الذي هلكه البياض في سنوات العشرين هو كفيل بأن يُعطيك مُوجزا مُفصلا عن كُل الأحوال والأخبار .. ناهيك عن الاستطراد الذي سيُسقطه بكلامه على الأحداث .. السائق الذي يُقلك صُدفة إلى مكان تتجه إليه .. يُعلن عن بداية النشرة بمجرد رُكوبك السيارة .. يستفتح بأخبار الساعة والعاجلة ويتراجع بالنشرات تلو الأخرى .. لا يُبقي ولا يذر  .. ثُم يتذكر حاله ومعيشته ويبدأ بسرد مُعاناته مع أهله وتوفير لُقمة العيش ..
حياة تُجبره على الاستماع إلى ما لا يُريد الانقياد له .. شعب بـ كتاب مفتوح من الشكاوى والتذمر .. حال لا يتبدل .. الأزمات المتتالية والمتوالية تحجب كُل ادراك وتفكير وتمعن .. ما أن تبدأ أزمة الكهرباء حتى تنتهي بأزمة الكهرباء ..

أفواج مُندفعة نحو البحار وعلى تلال اليابسة وثُغورها .. تتجاوز المُحيطات والأسوار  .. جهنم التي كان المشايخ يُحذرونه من التطبع والهجرة بهم وإليهم .. أصبحت هي جنة اليوم .. شُعوب بأكملها ترتحل .. كُل الأعمار ..
ما كان عليه سُوى أن يحمل قُوته وينطلق .. سلام على تُرابك أمي .. صراع مع مرض وممرات شهدت جُلوسها لـ فترات أطول من مُكوث أُمه في غُرفة العناية المُركزة .. حتى خرجت مُلثمة من الُغرفة تُميط اللثام بلجم جُملة أطاحته مكانه باكيا حزينا .. لقد ماتت !

حال لم يتبدل إلا عندما أقرّ العزم على الترحال .. وحيث ما يرمي الموج المركب .. وأينما ترسي المرساة .. الخيارات لم تكن فارقة سُوى أن يكون المُستقبل أعجمي .. أبيض البشرة وأصفر الشعر  .. إن الطُرق بأجمعها لم تُؤدي إلى رُوما خياله .. كانت كُلها إلى الموت .. وداعا أماه .. أيها الشجر والحجر .. أيها الشاهد فوق القبر .. بلغوها أنني بت في الغربة فِداها ..

أيتها الأوطان العربية التي لا تعرف العدل .. ولا تعرف من الدين سُوى الاسم .. ولا من الانسانية الا الجسد .. ها هُو يُلوح بالفُراق .. لا عودة إلى رحم المُعاناة ..

سلام عليك صديقي .. سلام على أهل المهجر ..
أنتم السابقون .. ونحن اللاحقون بإذن الله ..  




السبت، 23 يوليو 2016

فضفضة


ما بالُ الدمع لا يصيب إلا العُيون البريئة .. ولا تصفع الحياة إلا الخد الرقيق .. كيف أصبحت النُفوس مُعتادة على الغِلظة والغِبطة .. وباتت مُعتادة على النميمة والفتنة .. كـأس الدماء قد شربه الجميع حد الارتواء حتى أصبحت المشاعر ساكنة أمام كُل هذه الفوضى الحمراء ..
لِمن النصيحة وقد تمّلك الشيطان عُروق البشر .. يجري فيها مجرى الدم .. وما زال العالم في تِيه ما سلموا أدمغتهم لـ غيرهم .. وقدموا الظن على اليقين .. وتجرعوا الجهل ممن يبتغي ماّرب النفوذ والسُلطة .. وهذا زمان يختلف فيه العاقلان العالمان حتى يظن المار أنهم سُفهاء ..

لِمن النصر وقد خالف كُل أركانه وسار عكس طريقه .. وكيف يُنصر ضعيف يستعلي بـ جهله على من هُو أقوى منه .. يتمرغ في طين المُكابرة والتكبر .. لا يحسب لـ غيره ذرة حِساب .. يُقيم على قناعة لا تحثه إلا على الاستمرار في العناد .. وأنّ مذهبه هو المُنزل من السماء .. لا غُبار ولا غشاء ..


وما زال أقوام على جاهلية رُغم انكارهم لـ عِبادة الأصنام والأوثان .. لكنهم يُقدسون البشر .. حتى إذا ما ذُم محبوبهم على لِسان أحد من العامة أقاموا عليه حد القذف والسباب والشتم .. وووصفوه بالعميل والخائن .. لكنهم نفس الأشخاص إذا ما سمعوا أحداً يسب الذات الالهية ( والعياذ بالله ) هزوا رُؤسهم يمنة ويسرة ( هذا إن فعلوا ) .. وأكملوا كلامهم وطريقهم !


إن التجهيل الحاصل قد زاد من طمع المُتخاذلين والمُتسلقين .. وأصبح النافذة التي يستطيع بها المُستميل أن يميل على فريسته وغايته .. وإنهم وجدوا ضالتهم في نشر الدمار والخراب دُون أي خسارة لهم في المادة والارواح .. وإنهم لـ يخلقون الارهاب في النفوس قبل الوجود .. ومن خيال هُوليود إلى واقع مغشوش ..


لعلنا إذا ما أغلقنا هذه الأوبئة المعروفة بـ ( التكنولوجيا ) لـ بُرهة قصيرة فإننا سنشعر بإيجابيات عظيمة كانت غارقة في أعماق هذه التقلبات الكثيرة .. لكننا لا نستطيع الانقطاع الأبدي عنها .. وإذا أجبرتنا الحياة عليها فلم تُجبرنا على الانقياد لكل ما يتصدر عناوينها .. فلا يُملي من خلف أستارها إلا بشر مِثلنا ..

ماض لا يُنسى



لا أتخلى بسهولة عن ماض عشته .. وعن أرض مشيت عليها .. وعن بشر احتضنوني بكلماتهم وأفعالهم .. ما أظلم هذه الدُنيا حينما تُفرق .. كانت تلك السنة هي محطة تدريب لي لُكل ما قد يُواجهه الانسان منا في هذه الحياة .. بدأ بحمل على الظهر وصبر على المسافات وانتظار في صحراء وباب لا يفتح إلا مُمتنعا .. وتدافع السجين المظلوم إلى باب الحُرية وانتظار اّخر .. ترحيب وسلام وأحضان وقُبلات كثيرة ..
هذه الأرض التي مشيت عليها مُسبقاً أعود لها اليوم .. أجلس تحت سقيفة من سعائف النخل بعد استحمام أنزل عني هُموم رحلتي قبل أن يمسح عني عرقها وتُرابها .. أستنشق الهواء العليل .. لا أبراج تفصلني عن منظر السماء .. ولا عُمران لغطي يقضي على الطبيعة .. يُقرؤني السلام .. وأجيب بأتمه .. هذا لأن الارض التي أتيت منها لا يعرفون من السلام إلا حُروف مُجزأه .. تدعو عليك بالموت عندما يُلقي عليك المار فيقول : السام عليكم ! فلا أجد نفسي إلا أن أستنطق لساني بِحُسن الظن وأقول : وعليكم مِثل ما قُلتم .. وأكثر !

نفس مُرتاحة وراضية .. وعمل يُجهدك على أن تجتهد في الصبر على سماع الشكاوى .. وإني أستمع بإنصات وسرور .. تستميل الأيام ميلة واحدة وتضرب السماء أجسام طائرة تُلقي بالموت والدمار .. يتبدل الحال وتتغير الأجواء .. الظلام في الليل وكأنه أنثى استوطنت عباءتها حتى نامت بها .. يتوهج باحمرار كُلما زفرت تلك الأجسام وأكالت الموت بمكيالين ..


ولا عطاء لمن لا يُعطي .. وهكذا أجد نفسي أحمل الحقيبة على كتفي مُزودة بِكل ما يُساعد .. مشاهد كثيرة وقِصص هي الأعجب إذا ذُكرت .. يومها كُنت أستريح من عناء يومين كاملين حتى باغتني خبر مفاده أن شارع قريبتي أصابه وابل من القذائف .. وقد اخترقت احداها مُقدمة المنزل .. علمت أنها نُقلت هي وعائلتها إلى المُستشفى .. ارتديت ملابسي سريعا وهرعت راكضا .. وصلت هُناك واطمئننت عليها وعلى باقي أفراد عائلتها .. حماية الله ردت الانفجار سُوى شظايا صغيرة اخترقت الجلد .. أزيلت الشظايا وضُمدت الجراح .. جُرح يلتئم ولا تنسه الذاكرة .. إنه كـ من يُبعث من الموت ..


عادت الاجراءات الرُوتينية مرة أخرى لتُؤرق تفكيري .. اجراء التجديد والتمديد .. فلا هَوية لـمن لا جواز له .. ونفي في دَولة الغُرباء لمن لا اقامة له فيها .. كُلها أحبار على ورقة استهلكت من جسدي وتفكيري كُل ما استهلكت .. انتقلت أرض المعركة إلى البوابة التي تُخرجك من الموت .. كُنت أظن أنّ ما وراء هذا القحط المُميت خَضَار من الحياة .. وانما وجدت التنكيل والتعذيب يزداد ويزداد .. حتى ظننت أن الموت أرحم !


انتهت الاجراءات .. ويا ليت الألم كان محض كلمتين لا تتجاوز الثواني التي عبرت عنها بانتهاء هذه السخافات .. عُدت لأتمم ما بدأت .. حتى أعلنت الحرب انتهائها .. وأصبح البُرج المقسوم واقفا وشاهدا على العُدوان ..


ما أن انقشع الغُبار الذي خلفته هذه الحرب .. وأصبح الناس يُبصرون ولو قليلا بعد انجلاء ضبابها شيئاً فشيئا .. توجهت إلى البحر .. حيث تموت الهُموم هُناك .. يغسلك كما يغسل نفسه .. وقتها كان الشتاء ينقث لسعاته الباردة .. لكني ارتميت بكُل ثقلي على الماء .. وازويت تحت سطحه لِ بُرهة .. أحاول أن أُفرغ كُل الماّسي التي رأيتها .. وأرتد بجسدي مُخرجا اياه .. كأني أرى الهُموم تبتعد من حولي ..
لم تكن الحكايا التي خلفتها تلك الحرب قد خُطت على الألسنة .. وعاش الناس في صمت ينظرون إلى أنفسهم فقط كيف خرجوا من هذا الهلاك المُبين .. عادت الحياة تدريجياً وببطء شديد .. كثيرة هي الأماكن الفارغة التي تركها من استعجلوا الرحيل .. ما عُدت أطيق السُؤال عن غائب خشية أن أُفجع بخبر رحيله .. كُنت أترك الفُرصة للأيام أن تُلقيني إلى لِقاءه بالصُدفة .. وكُلما مررت على المقابر وقفت أنظر إليها .. لم تكن بهذا الاتساع قُبيل الحرب .. وما زال التُراب رطبا .. والشاهد يتمايل .. والزرع أخضر من الماء الذي رُش بِعناية .. صمت لا يُحرك إلا خوفا من سُؤال باغتني .. أين أنت يا من أبحث عنه .. هل أنت حقا هُنا ..

أنظر إلى ساعتي فأرى الوقت قد سبقني وأنا لم أشعر به .. أقرأ : السلام عليك وعلى من حولك .. أنتم السابقون وإنا إن شاء الله بكم للاحقون .. وأمضي في طريقي .. 

الخميس، 21 يوليو 2016

الارادة



فيما يبحث البعض عن أعذار لتبرير التقصير ..

                يظل البعض حريصاً على العطاء حتى في أصعب الظروف ..

الجمعة، 15 يوليو 2016

أرجوحة الزمان


ما يقرع باب الذكريات إلا عابر وخاطر لا إرادي .. يُذكر بالزمان الذي ارتبط بذلك الخاطر بشكل عفوي غير مُنتظم .. أُدرك أن نسمة هواء تُذكرني بـ شُرفة منزل يُطل على شارع كان مُنذ الأزل سِكة حديد .. يحمل القطار أشكالا وألوانا من البشر ومن متاع هذه الحياة .. وما يُحيي النفس البشرية من علاج ودواء .. وما يُهلكها من سلاح ورصاص .. حتى باتت تِلك القُضبان بعد مّر الأزمان على جانب الشارع .. صدئة ومُتهالكة يلتهمها الصدأ ..

ورائحة من مُنقبة مُتبرجة بعطرها .. يغتال الأكسجين في الرئتين .. ويملىء مخزون الدماغ حد الاشباع .. حجزت لي تذكرة سريعة إلى باريس الحالمة .. أجول وأصول في مفاتن ورودها .. أنتقي الوريقة فالوريقة .. وأذهب بها إلى العطار .. وأراقب التسلسل المُعقد في طهيها .. خطوة بـ خطوة .. حتى إذا ما قربت من نهاية هلاكها .. فاحت رُوحها جميلة وعبقة على هيئة قطرة ..

وبائع انتفخ وداجه في حين غلظه .. قلبت سيارة بستطه في حين غرة .. وكلمة لـ كلمة أوصلتهم لـ حركة .. انفض الخلاف وانتهى النزاع .. أعادني ل ( بو عزيزي ) مُفجر الثورة .. أثارت نفسك على بستطك أم أن خدّك لم يتحمل سُخونة الصفعة .. فأشعلت النار في كُل جسدك لتتساوى الحُرقة .. وأصبح المثل من بعدك ( وراء كُل هلاك شعوب بأكملها امرأة ) !

 ووالد يركض في كُل زاوية مُتهكما مُتعرق .. لا يلحق أن يشهق حتى يزفر سريعا .. ما عاد حجابه الحاجز يُميز الحركتين .. يُنادي على طفله التائه .. وهو الذي تراءى له في ذلك الوقت أن ابنه سلك غيابات الجُب .. حتى رفع رأسه وكأنه يرمق النفس الأخير من وداع ابنه فتجلى أمامه .. احتضنه وقبّله وحمله وأخذ طريقه إلى البيت .. بخلاف الاّخر .. لم يكن طفله تائه في الدُنيا .. انتقل في لحظة إلى حياة أخرى .. لحظة غدر وطمع بشري طالت قلبه وروحه .. لم يُرهق ذلك الوالد صدره .. استيعابه للأكسجين كان ضئيلا حد الاختناق منه .. صامت المغشي عليه من الموت .. بعينين يسترق النظر إلى فلذة كبده .. يحتضنه ويُقبله ويحمله .. ويأخذ مسلكه إلى قبره ..

الزاوية


لا زِلت أُؤجل الضجر والملل إلى ما بعد العاشرة ليلاً .. لا سبيل لهما ما قبل ذلك الوقت .. فإني أستنفذ كُل الدقائق في مِلئها .. مُجزئة بين الارهاق والصحة والرخاء والشدة .. أسعى في هذه الفانية بكُل ما أوتيت عزم .. كان والدي يُردد قائلاً : إذا تعب الشاب كذبه .. وإذا جاع صدقه ..
قِصتي ما بعد العاشرة ليلا تعود إلى زاوية من زوايا سطح منزلي .. أركن يداي تحت خدي .. وأقف صامتاً أمام مشهد صامت .. يقطع هذا الصمت دِيك جارنا الذي يصيح رُغم أنه ليس بوقت اّذان .. أحسبه يُمرن صوته بين الفينة والأخرى .. وهُناك عربة يجرها حمار .. نام صاحبه فوق العربة والحمار يسير .. أظن أنه يسلك طريق البيت .. فهو الذي يتردد وما زال على قارعة هذا الطريق حتى احتواه حِفظا ونام صاحبه مُطمئنا ..

صرصور الليل يُحاكي عقرب الثوان .. مُلازم لليل كما النجوم تلازم السماء .. في كُل صوت له حكاية .. أهتدي بها إلى ذكريات ماضية مضت ولم يبقى سوى الأثر الذي خلفته في ذاكرتي .. 

ما زال الطبق الطائر الورقي الذي علق في أحد أسلاك الكهرباء يترنم كنوتات عذبه يُحركه أصابع النسمات العليلة التي تزفر بهدوء بعد شهيق ليل ظالم صامت .. يُعكره تحليق نفاثات حربية خرجت كي تصطاد أو تتدرب .. أو أنهم يبغون تذكيرنا أنهم ما زالوا هُنا .. ونسوا أننا لا ننساهم ما حيينا !

أجزم أن المعبر الذي يفصل الأرضين قد أُعلن عن فتحه .. هُناك عن كثب .. كانت سيارة تحمل حقائب وأمتعة .. وإن استدركت انفراج بابه من السيارة لأن الحقائب والأمتعة لا تظهر إلا في وقت ( عيد ) .. العيد الذي يُفتح فيه المعبر ويُغادر فيه المُسافر .. هذا إن غادر .. فأحياناً كثيرة يعود خائبا كمن يُسلم رأس الشاة للقبلة فيجرحها جُرحا لا هي فيه بـ حية ولا ميتة !

في نفسي أقول : رافقتكم السلامة .. أبتسم في صمت وكأني أراهم غداً وهُم عائدون .. وأُعيد قائلاُ :
أهلاً بكم في فلسطين !

مفاهيم

لم يكن الجراح ليبتكر طريقة يُصلح بها عارضاً اعترضه وقت العملية وأصل الحل موجود في مراجع عِدة .. فإما أن يعود إلى تِلك .. أو يستشير من هُو أعلم .. 
فـ ليست حياة المرء لُعبة تجارب  !

وإن من يجد حلاً جديداً لـ هو المُفكر المُطلع .. وهو الذي يقيس بمنطقية .. ينظر بتمعن وتمهل .. يصل هذه بتلك ولا يترك مجالاً للشك .. يجمع الأدلة العلمية ويربطها ثُم إذا ما أدرك الحل .. أدّى وفعل ..

جدير بهذه البِداية أن تكون استفتاحاً منطقيا وحلاً جذرياً لكل ما يجول ويُحيط في هذا العالم .. وأخص منه الإسلام والمُسلمين .. لا شائبة على الإسلام أبداً .. ولا ينقصه ما يزيده .. فهو الكامل المُكمل .. إنما ما أثار العقل وجعل من هذه النقرات وسيلة لـ تفريغ ما عبئ في الصدر أنّ المّضرة تأتي من المُسلمين للمسلمين أنفسهم !
لا يُنكر عاقل ما عهدت هذا الأرض قبل 1400 عام أو يزيدون من حدث غير موازين الخليقة حتى هذه اللحظة التي تقرأ فيها أيها القارئ .. وما لبث الواحد حتى أصبحوا اثنين والاثنين أربع والأربع ثمان .. وهكذا حتى تضاعفت الأعداد وأصبحت بالملايين والمليارات .. وإنها ليست رياضيات تُضرب وتُقسم .. إنما العدد على ما بُني في العقل ووقر القلب ولامس الصدر والروح .. 

وكما أن الإنسان بلا نُطفة .. فلا وُجود له .. فالمسلمين بدون أصل الإسلام لا غاية ترجو لهم ولا منهم .. يأتي علينا الآن من يُحدث بأمر الإسلام ويستطرد في ماضيه ويبدأ بمُقارنة الأزمان .. وينتقص من أفعال فعلها أصحاب كانوا سند وظهراً لصاحبهم مُبررين أن الزمان الذي يعتصروه ليس مُناسبا .. وتناسوا أنهم بهذه الجُملة أن الزمان هو من اعتصرهم !
ليست بالمُعادلة التي تحتاج مُفكراً .. وإنما يُتقنها فقير جاهل .. لماذا ندفع أنفسنا لابتكار مناهج تقليدية والأصل موجود ومحفوظ .. أما كان الإسلام كاملا وصالحاً لكل زمان ومكان فـ لماذا التلاعب والتلكك !
وإذا كان الجراح يعود للأصل خشية على حياة إنسان واحد تحت يديه .. فما بالك بـ أمة تنقاد إلى كُل مُهلل أطلق على نفسه ( شيخا أو مُفكرا أو مُستنيرا أو مُفتيا ) يتجرع الكلمة من أول سطر في كتاب يقرأه ليتجشأه على العامة ..
إن الحُرية بحد ذاتها يجب أن تكون مُقيدة بمفاهيم وشروط حتى يُطلق عليها ( حُرية ) .. فـ ليست هي بمناط عقل كُل مستهوي يستحدث من الأمر شيئا وما هو في الأصل بشيء .. وإن أكثر من تستهويهم أنفسهم وتلوذ بهم إلى طُغيان مُخترع يبتدعون الفِكرة وهُم أنفسهم لا يُطبقونها .. كـ أكبر مالك لمحاصيل التبغ .. عندما سألوه : هل تُدخن ؟ .. فأجاب : هل أنا مجنون !

لا يحتاج الإسلام إلى من يُصحح ويُعدل ويبتكر ويستحدث فيه .. وإنما تحتاج الأدمغة لأن تصل إلى مرحلة العقل كي تستوعبه وتُعيده إلى سيرته الأولى .. الزمن الذي إذا ما أراد في المسلمون خلع الجبال .. لخلعوها ..


موقف


في بلاد بعيدة عن الموطن الأُم .. وفي حي من أحياء المدينة التي تغّرب إليها من ضاقت عليه صدر أوطانهم .. اجتمع أربعة رجال من العقد الخامس والسادس أمام جامع بعد أن انتهوا من صلاتهم في صُدفة هي الأعجب ..

ليست عادتي أن أكون فُضولياً .. إلى أنّ الجُملة الأولى التي نطق بِها أحدهم عندما أراد أن يجذب بها انتباه الاّخر .. ( هل أنت من عائلة كذا ؟! ) ..
في أول وهلة حسبت أنّ الأمر قد انتهى بمجرد السُؤال .. كُنت على يقين أن الزمان يستهلك من الملامح كما يستهلك من الأيام والساعات والثوان .. وأن بُعد الشُقة والمسافة وانقطاع الوصل الطويل يحول بين الأخ وأخيه إذا ما سلكا طريقاً واحدا حتى لو اصطدم الكتف بالكتف ..

نظرت إلى الرجل الاّخر وقد هممت بالعودة إلى البيت .. استوقفني عندما أجاب : نعم .. أنا من عائلة كذا .. مدّ يده للمُصافحة .. لم تتجاوز ملامسة اليدين حتى جاء رجلان اّخران .. اجتمع الأربعة .. وليس للمُغترب حديث إلا عن موطنه .. الأول يُسمي حيا في مدينة .. والثاني يصف له الشارع .. والثالث يترحم على شاب ويدعو له بالرحمة ويحسبه شهيداً عندما طالته يد الاحتلال .. ذاك الشاب الذي سماه الرجل الأول عندما أوصله بسيارته من المعبر إلى بيته قبل سبع سنوات حيث كان وقتها يعمل سائقا قبل أن يكون مُقاوما ..

أما الرجل الرابع فلم يعلم من كُل ما قِيل سُوى الأسماء التي ما زالت ول يطوها الزمن منذ قرابه السبع والأربعون عام .. حدّث أن مِن الذين طالتهم نكبة السبع وستون .. خرج من بلاده مُرغما .. لِسان حاله وكأنه يقول : حدثوني عن كلام أعقله وأُدركه .. تِلك الجنة التي لم أراها منذ تلك السنوات .. ويحجبها عن بشر مُتخاذلون متسلطون .. صمت إلى أن سأل الخالق أن يُدخله جنة السماء بعد أن مُنعت عنه جنة الارض ..

أدركت حِينها أن التعارف ليس بمجرد كلمات وحُروف .. في الملامح قصص وحكايا جعلت من الأربعة المُخضرمين في الحياة أن يقفوا قرابة الساعة مُتناسين اّلام المفاصل وشد العضلات وموعد دواء مرض السُكر وارتفاع الضغط وتصلب الشرايين ..

أظنهم عادوا إلى أوطانهم في هذه الساعة في سفر عقلي خيالي سريع .. تصافح كُل منهم وودع الاّخر .. وعاد إلى غُربته ..

كورونا العصر

كنت دائم التفكير في ما تطرحه مواقع التواصل الاجتماعي - أو كما سُميت بذلك - على مختلف أنواعها وأسماؤها وأشكالها المتجددة عام بعد عام ،...